.
ذاكرة العشق.
"7"
الفصل الثالث.
لما انتقلت من القاهرة إلى بلدتي بالشهداء، وجدت أن داري لا تسعني أنا، وأولادى،
فتقدمت بأكثر من طلب لمجلس مدينة الشهداء لأحصل على شقة تسعني أنا وأولادى،
بالمساكن الشعبية، فلم أتمكن. وعرفت أن الشقة فقط لمن يملك واسطة،
فذهبت إلى أمي في القاهرة لأنها واسطتي عند الله ورسوله، فعندما قلت لها يا أمي.
إن داري صغيرة، ولا تسعني، ومهدمة. فقالت لي على الفور: "أبني لك يا ولدي"،
فقلت لها: "ليس هذا المطلوب يا أمي، إنما المطلوب شقة بالمساكن الشعبية بالشهداء،
والشقة لمن له واسطة، وأنا لم أحصل على شقة لعدم معرفتي لأي واسطة هناك.
ولكني يا أمي أ تيتك لأنك واسطتي عند الله ورسوله، وأحتاج إلى دعائك لي يا أمي.
"، فقالت: "هل حضرت لهذا الطلب فقط يا ولدي؟ قلت لها: "نعم. يا أمي" ...،
قالت "ماذا أقول؟"، قلت لها "قولي الله يسهل لك وتأخذ شقة فى الشهداء."، فقالت:"طيب قوم قابل إخواتك".
ومعنى هذا أن أي إنسان يدخل الخدمة أقوم بخدمته، وإطعامه، وإكرامه. لأنها تحب إطعام الناس، وجبر خواطرهم.
بعد ذلك دخل علينا السيد اللواء الصبان، وكان فى ذلك الوقت مديراً لبلوكات الأمن بالدراسة.
فسألني: "لماذا أتيت إلى هنا يا إبراهيم؟"، فقلت له: "لزيارة آل البيت، وأمي"، وقلت له على طلبي.
فأخذني معه إلى مكتبه بالدراسة وقال: "يا إبراهيم سوف نعمل بالبركة"، فقلت له: "هذا ما أريده".
فأعطاني خطاب للسيد مأمور مركز شرطة الشهداء، وخطاب آخر للسيد رئيس مجلس مدينة الشهداء المرحوم علىّ الدين رسلان.
فرجعت بهما، وأعطيت للمأمور خطابه، ولرئيس مجلس المدينة خطابه.
وبعد ذلك ذهبت إلى السيد رئيس النيابة بالمحكمة وكان اسمه السيد المستشار صلاح قاسم،
فأكرمني كرماً شديداً بعدما تحدثت معه، وأخبرته عن حالي، وحاجتى للمسكن. فقال:"لي أنت رجل كريم"،
وأقسم أن اعتبر الشقة من الآن في حوزتي. وذهبت إلى رئيس مجلس المدينة.
فوجدت السيد المأمور يتحدث مع رئيس مجلس المدينة عني، فدخلت عليهم، وشاركتهما الحديث،
حتى قرروا منحي شقة استثناء دون قرعة،
وكانت كرامة لأمي.
فى يوم جمعة كنت أصلي فى سيدى شبل، وكانت أمي مازالت في المستشفى
فنادى علىَّ الأخ حفناوى خادم ضريح سيدى شبل وأخبرني أن أحدهم يسأل عنك،
فوجدت الشيخ عبد الحميد مكي وهو من إدفو، ومعه الشيخ عارف من سيدى عبد الرحيم القناوى من قنا.
وذهبنا بعد صلاة الجمة إلى البيت، وبعد ما أخذوا واجبهم، أرادوا الانصراف، فذهبت معهم إلى موقف السيارات،
فوجدنا سيارة تحتاج ثلاثة ركاب فقالا لي "تعالى معنا لتزور أمك بالمستشفى"، فذهبت معهما حتى دخلنا على أمنا،
رضى الله عنها بالمستشفى فقال لها الشيخ عبدالحميد: "يا حاجة زكية جبت لك ولدك العمدة إبراهيم العشماوى.
"، فقالت له: "لماذا؟ وهل أمرتك بإحضاره؟ لقد سافر من هنا يوم الأربعاء ليلا، فلماذا أتيت به الآن يا شيخ عبد الحميد؟"،
وكانت تتكلم بشدة. وقالت:"والله لن يدخل علىَّ ولدي إبراهيم الآن؟"، لم تغادرها الحدة في الحديث مع الشيخ عبد الحميد.
فذهل الشيخ عبد الحميد من هذا الموقف،
وبعد ذلك أمرت الدكتورة هانم التى كانت تقيم على خدمتها بالمستشفى بإحضار أكلها الخاص من الثلاجة لإطعامى
وقالت "أطعميه لأنه لا يطلب"، وهنا احتار الشيخ عبد الحميد من هذا الموقف كيف ثارت عليه بسبب إحضاره لي،
وكيف هى الآن تطعمني، بل وتقدم لىَّ الطعام الخاص بها!
فقالت: "يا ولدي قد غادرني الأربعاء أول أمس، واليوم تحضره معك!
إنه مجرد ما يسمع عن أمه يأت فوراً.
"، فلما خرجت أمي من المستشفى بسلامة الله ورجعت إلى الخدمة بالجمالية،
كنت أذهب إليها ارتجالا مرات كثيرة.
فلما رأت ذلك أخذتها الرأفة بى فقالت: " يا إبراهيم، يا ولدى أشترى لك سيارة ملاكي،
وأجعلها ملكك، وحينما تأتي لأمك هات دور معاك، وأنت راجع خذ معاك دور.
"، تقصد مساعدتى بذلك. فقلت لها "بلاش يا أمي" فسألني كل من عرف أننى رفضت أن تبني أمي لي بيتاً،
وكذلك رفضت موضوع السيارة. "لماذا رفضت هذا يا إبراهيم؟"،
فقلت له: "والله لم أرفض، لكنني سمعت منها أن هذه خدمة مولانا الإمام الحسين.
وقالت من ستر هذه الخدمة يا ولدى، يستره الله، ورأيت أن الخدمة عليها داعي كثير جداً.
ومصاريف كثيرة جداً حتى أن بعض الصالحين قالوا إن خدمة الحاجة زكية بمولانا الإمام الحسين أكبر خدمة فى القاهرة تطعم الناس.
فمن هنا تعففت أن أكلفها شيئاً إكراماً للخدمة."، فقال: "هكذا تكون التربية!".
"فيجب على كل مريد، وكل محب إذا رأى شيخه فى خير أن يسعد، ويشكر الله ويحمده، ولا يطمع فى شئ.".
ولكن يا سيدى قد طلبت من أمي الفانلة التى كانت ترتديها على جسمها فأعطتها لي،
وهذه عندى أغلى من المباني، والسيارة، ومن كل شئ.
فهل صادفت حنانا في أى شيخ، أو في أى عم، أو في أى أم، أو في أى مرب
مثل هذا الحنان (حنان الحاجة زكية) رضى الله عنها وأرضاها.
ولما كانت أمي فى المستشفى ذهبت إلى بلدتى، وعدت إليها بعد يومين وكان معى أول قصيدة كتبتها فيها.
فلما أردت أن أذهب إلى بلدتي بعد الزيارة فى صباح اليوم التالي،
وكنت قد قضيت الليلة معها فى المستشفى، وفى وقت الاستئذان بالعودة،
دخل علينا لزيارتها السيد اللواء ثروت عطا الله كان فى ذلك الوقت محافظاً لسوهاج.
فقالت لى أمي "القصيدة معك يا إبراهيم؟"، قلت "نعم يا أمى." فقالت "اقرأها لى قبل أن تسافر."
فقرأتها وسمعها السيد اللواء ثروت فأصر على أن أجلس وأقرأها، وكان هناك كرسى واحد فى الحجرة،
فرفضت الجلوس أمامه، وهو أصر على الوقوف احتراماً لي و لأمي، وكنا بين إصرار منه على جلوسي،
وإصرار مني على عدم الجلوس وجلوسه هو على الكرسي. فقالت أمي عليها رضوان الله ريح أخوك يا إبراهيم.
فجلست وقرأتها. وبعدها أخذني من يدى، واتجه إلى أمي وسألها "كيف كتب هذه القصيدة يا أمي؟
فأشارت على قلبي وقالت له: "من إللي جواه." وهذا جزء من القصيدة :
الحسينية الزكية نسل مولانا الحسين
جئتها أطلب رضاها والتمس منها الحنين
إنها نصر وعز، إنها الفتح المبين
أنت للفقراء كنز، أنت للدهر معين
وحنانك يا زكية فاق حنان الوالدين
أنت بحر لا يدركه إلا العارفين.
فلما وصلت لكلمة "أنت للدهر معين" قالت عليها رضوان الله:"أنت وصلت للحتة دى يا إبراهيم؟،
يا ريت كل الأحباب، وكل الناس يعرفوا ده. عموما مبروك عليك يا ولدي، واكتب يا إبراهيم،
قول يا ولدي ، قول يا إبراهيم".
ويوما أرادت أمي أن تذهب لزيارة سيدى أبي الحسن الشاذلي،
وكانت في زيارتها تمر على كل أولياء الله الصالحين والمشايخ في طريقها،
وكانت تستريح فى قنا عند أخينا الصافي ،عليه رحمة الله،
وقبل سفرها قالت لى: "أن أبق فى الخدمة أنا وزوجتي، وبعض أخوتى،
ثم قالت لي:" أنا يا ولدي أطعم الضيوف، وأسقيهم الشاي،
وأنت لو قدمت الشاى فقط فلا حرج عليك.".
وكانت قد أخذت معها أخى الشيخ عبد الرحمن القوصي، وبعض الأحباب
وفي صباح اليوم التالي لسفرها فتح الله لي باب رزق يومياً،
فأطعمت من يأت إلى الخدمة حتى عادت بسلامة الله. وذهب كل منا يسلم عليها،
ولكني لم أذهب معهم لأسلم عليها. فقد كنت فى حال صعب، وبكاء مستمر من فرحتي بعودتها،
وشدة شوقي إليها. حتى قالت أحضروه لى وقالت: "يا ولدي عامل زى اليتيم؟" ،
فسلمت عليها ونقلتنى من حالي . فارتحت، وارتاحت روحى. وفى أثناء سفرها جاءنا شاب صالح،
له طلب يريد ان يقضيه، فجاءها يطلب منها الدعاء. فوجدنا، فسأل عنها، قدمنا له الطعام والشراب،
وأخبرناه أنها موجودة لكنها تصلي،
فلما انتهى من الطعام والشراب سأل عنها مرة ثانية فأخبرناه أنها فى سفر ففرح الرجل جداً بهذا التصرف،
وأنه أُكْرِم بالخدمة، ولكنه كان فى حال شديد، ويريد منها الدعاء لقضاء حاجته.
فلما شعرت أنه كذلك أحضرت "القُلة" وكان شكلها ظريف، وشربت منها وقدمتها له،
وقلت له:"اشرب، وقل ما تريد أن تبلغه لأمي، بلغ القلة مسألتك وكأنها الحاجة زكية،
واشرب منها على بركة الله!"، فاستجاب الرجل وقبل منى هذا الحال بروح طيبة،
وشكرنا على ما قدمناه له وذهب، وبعد اسبوع من عودة أمي جاء هذا الرجل.
وأنا غير موجود، وأبلغ أمي بما حصل، وأن جميع مصالحه قُضِيت ببركتك يا ستنا الحاجة.
فقالت له: "ادع له"، وسرت بذلك سروراً كبيرا، ولما حضرت من عملي أخبرتني بما قاله الرجل لها.
وقالت "سديت، ومديت يا إبراهيم، ومبروك عليك يا ولدى.".
وفى إحدى المرات كان مولد سيدنا ومولانا الإمام الحسين، رضي الله عنه، وكان الزحام شديد،
وكانت عادتى أن لا أنام حتى يرتاح كل الناس وأقضي لكل واحد حاجته ثم أدخل على أمي قبل أن أنام
وفى هذه الليلة عندما دخلت عليها، وأخبرتها بأن الجميع قد أكل وشكر الله وحمده، وناموا فى رضا تام،
وانستروا بفضل الله وببركتك يا أمى، واستأذنتها لأنام. قالت: "انتظر لما أشوف لك إيه حلو عند أمك."،
وقدمت لى عدد أربع ثمرات من البرقوق زى العسل النحل الواحدة منها فى حجم البرتقالة وطعمها لذيذ جداً.
وقالت:"اسمع يا ولدى إنت عارف إن أمك بتحب هذا النوع من الفاكهة.
" فقلت "يعنى إيه يا أمى؟"، قالت "يعنى لا تأكل أكثر من هذا" وهى تكلمنى في دعابة،
وأعطتنى البرقوق فى يدى وبدأت آكله وهى تكلمنى، فصرت آكل،
وكل ما أقرب على الانتهاء من البرقوق تضع غيره فى يدي، وأنا غير منتبه لما تضعه،
فقط آكل ما تضعه فى يدى. وظللنا على هذا الحال ما يقرب من ساعتين،
وهى تضع فى يدي، وأنا آكل وهى تكلمنى. ومن شدة حبى لها كنت لا أدرى أين أنا ؟ ولا كم أكلت؟
وكانت المرة الأولى التي يحدث لي فيها هذا الحال. وبعدها حصل كثير جداً بأشكال مختلفة.
وكنت كلما دخلت عليها وهى تأكل ،عليها رضوان الله، تطعمني من طعامها، وكثيرا ما حدث ذلك.
وأقسمت بالله" أننى أطعمك من الجنة يا ولدي."
(وهى صادقة جداً بدون قسم، لأنها من آل بيت النبى ،صلى الله عليه وسلم، وهى لا تقول إلا صدقاً.)
.